اخبار مصر

اندبندنت عربية

سياسة

أغاني الريف في مصر... حالها من حاله

أغاني الريف في مصر... حالها من حاله

klyoum.com

يختلف المتخصصون حول مدى صمود هذا اللون التراثي في وجه أغاني المهرجانات ويؤكدون أنه عمل جماعي يجب توثيقه والاستلهام منه

النشاط والزخم الملحوظ في مشهد الغناء المصري، الذي يتضمن انتعاشة لسوق موسيقى الراب والمهرجانات والغناء التقليدي وقليل من الكلاسيكية والأغنيات الشعبية، يبدو ثرياً، وبغض النظر عن التقييمات المتفاوتة لكل تجربة في ظل تعدد الأجيال التي تمسك بزمام الأمور على المسارح فهناك من بالكاد أكمل الـ20 من عمره وهناك أيضاً من يقتربون من الـ70 وهم بكامل عطائهم، لكن على ما يبدو أن المستمع لا يزال يطلب مزيداً، لدرجة أن مغنية صوتها قادم من الحقول نجحت في أن تتصدر الاهتمام وتخطف الأسماع، لتحقق الشهرة وهي في منتصف الستينيات من عمرها.

قدمت الحاجة نبيلة نموذجاً للغناء الريفي المفتقد بشدة بعد اختفاء كبار رموزه وتوقف صناع الموسيقى عن إنتاج هذا اللون الشديد الثراء، الذي يندرج تحت بند الغناء الشعبي ابن بيئته ومحيطه، ويتميز بكونه مخلصاً تماماً لمفردات الريف وطبيعته حتى في هذا العصر الذي تداخلت فيه طبائع المناطق الجغرافية وتشابكت فيه سمات معيشة أهل الدلتا مع سكان القاهرة.

الحاجة نبيلة الملقبة بـ"بلبل الشرقية" بزيها الفلاحي الشهير ظهرت قبل بضعة أعوام على السوشيال ميديا في مقطع عفوي صوره ابنها، وهي تغني "البامية شوكتني"، وعلى رغم أنها لفتت الأنظار حينها، فإن الشهرة جاءت تجري بعدما قدمت شارة مسلسل "ولد وبنت وشايب"، بصوتها المنطلق، وهي تقول "هات إيديك يا ولا وتعالي نجري"، لتعيد مجد هذا الغناء "الفلاحي" الذي يبدو بسيطاً ومرتجلاً ومبهجاً وعميقاً في الوقت نفسه.

جاءت الحاجة نبيلة من محافظة الشرقية شمال مصر، موطن عبدالحليم حافظ وعمرو دياب، وأيضاً فاطمة عيد إحدى أشهر مطربات الأفراح والغناء الريفي في القرن الـ20، وتجربتها الاحترافية لم تنقص من عفويتها شيئاً وبدت أغنيتها المسجلة في استوديو مجهز مع صناع موسيقى بارزين بينهم الملحن محمد يحيى والشاعرة منة عدلي القيعي، وكأنها خارجة لتوها طازجة من مساحة الأرض المزروعة التي تعمل بها الأرملة المسنة منذ عقود، لتدبر قوت يومها هي وأبناؤها الذين باتوا رجالاً اليوم.

"أنا شرقاوية يا ولا" و"قطر الندى" و"البامية شوكتني" مفردات كانت قد غابت عن ملامح الغناء المصري، وهي نابعة تماماً من البيئة الريفية، أعادتها مطربة "هات إيديك يا ولا" من جديد، لتذكر من خلال وسائط مثل "تيك توك" و"إنستغرام" و"يوتيوب" تبدو وكأنها خصم لهذا التراث بقائمة طويلة من الكلمات التي شكلت طباع هذا اللون الغنائي مثل الترعة والقطن والفل والزراعية والغيط، مع غيرها من مفردات تدخل في صميم الحياة اليومية لسكان البيئات الزراعية.

وعلى رغم تشابك البيئة الريفية مع كثير من المناطق، وأبرزها الفلكلور الصعيدي، فإن التراث الغنائي الصعيدي والنوبي والقنائي والبدوي يتشابه في السمات ظاهرياً، لكن لكل منه تجربة خاصة تماماً، شديدة الارتباط بالبيئة، وبالطبع أول مظاهر الاختلاف يكون على مستوى اللهجة التي يدرك المستمع من خلالها إلى أي بقعة وثقافة تنتمي الأغنية مع ترديد كلماتها الأولى، وهو ما يسمى صورة عامة بالغناء البلدي الذي تندرج تحته نوعيات عدة، وإذا كانت باقي المناطق ترتبط أغنياتها "البلدية" باستخدام آلات موسيقية عدة، لكن الأمر يبدو أكثر محدودية في الغناء الريفي، إذ يتطلب أبسط الآلات مثل الطبلة والدف، وقد لا يتطلب من الأساس، هذا عند تقديمه بالطرق التقليدية غير الاحترافية.

أستاذ التراث، العميد السابق للمعهد العالي للفنون الشعبية بمصر، مصطفى جاد، يرى أن الأغنية الشعبية التي من روافدها الأغنية الريفية مرتبطة بالإبداع الشعبي الجماعي، فهي نتاج مؤلف غير معروف، وحتى نغماتها غير معروف مبدعها، ويجري توارثها عبر الأجيال، وهي توصف بالشعبية، لأنها تظل حية على الدوام، مضيفاً أنها ترتبط عادة في مصر ببيئات ثقافية متنوعة، فحتى أغاني الفلاحين ترتبط بريف الحضر وريف الدلتا وريف الصعيد، ولكل منها طابع، إضافة بالطبع إلى أغاني البدو والساحل ومدن القناة والنوبة.

ويتابع جاد "الأغنية الشعبية مرتبطة باحتفالات الناس بدورة الحياة: الميلاد والزواج والموت، إذ فن كثير في الجنازات، وتتخللها مناسبات عدة مرتبطة بتلك المعاني مثل الحصاد والزفة والحنة وشبكة العروس، وسبوع المولود واحتفالات رمضان والمديح النبوي وزيارات بيت الله الحرام، إذ إن أغنيات الاجتهاد مثل البناء والعمل بالأرض مرتبطة عادة بالرجال، وأغنيات المناسبات تؤديها النساء، ومن بينها أغنيات النصائح للعروسين وعائلتهم، على سبيل المثال، وقد تصاحب تلك الأغنيات آلات موسيقية أو لا، ومن ضمن الآلات المرتبطة بثقافة البيئة في مصر الربابة والدف والطبول والأرغول والمزمار البلدي والسمسمية في مدن القناة التي تعرف أيضاً باسم الطنبورة في أسوان".

وازدهر الغناء بصورة أساسية في الأفراح التي تقام في القرى، إذ كان يجري صنع الأغنيات بطريقة شبه ارتجال، وتنغيمها بصورة غير احترافية، وعلى رغم شهرة كثير من الرجال في أداء هذا اللون مثل محمد طه، فإن النساء كن أكثر حضوراً، وارتبط هذا الغناء بكثير من الأسماء التي كان لها بصمة تجاوزت حدود بيئتها الصغيرة، بل بعضهن قدم حفلات في محافل دولية، مثل خضرة محمد خضر التي اكتشفها زكريا الحجاوي (1915 - 1975) رائد هذا المجال، حين كان يجوب القرى ويكتشف مواهب سكانها الفطرية، وكذلك زينب المنصورية وجمالات شيحة، إذ يبدو مظهرهن محفوظاً في الذاكرة على رغم التشابه الشديد في نوعية الملابس والأكسسوارات وطريقة الزينة، فقد حافظن على شكل الملابس الريفية التي تميز النساء المصريات منذ قرون.

فيما رسمت الأغنية الريفية ذاتها معالم الحياة وتعقيدات الحياة الاجتماعية، وعلاقات النسب، والتباهي بالطبقات الاجتماعية والحسب والجاه، واحتفت بصورة خاصة بالزواج كمناسبة أساسية، لكن الأمر أيضاً لم يخل من أغنيات تتغنى بجني المحصول الوفير، والذهاب إلى الحج وإنجاب الأبناء، بل بعض الأغنيات كانت تحمل توجهاً عاطفياً جريئاً جداً، والعجيب أنه لم يكن مستهجناً في تلك البيئات التي تصنف محافظة، إضافة إلى أنه لم يكن مستهجناً انتظام النساء بصورة أساسية في هذا المجال، إذ كن يحيين الأفراح في الأرياف بشكل طبيعي، ويضربن على الطبلة والدف، وهن يؤدين بأصوات مقبولة وبعضها يرتقي إلى مرحلة العذوبة.

قد تكون فاطمة عيد من أشهر مطربات موجة أغنيات الريف، التي كانت صوتاً حاضراً في الأفراح والمناسبات السعيدة بخلاف ليلة الحنة والزفاف، إذ استلهمت عشرات الألبومات الخاصة بها من تلك الأجواء، وهناك أغنيات لها تحتفل بسبوع المولود والخطوبة والمديح النبوي، والأعياد، إذ بدأت مشوارها منذ ثمانينيات القرن الماضي تقريباً، وبعد اختفائها لم يعد يهتم أحد بإنتاج هذا النوع من الغناء المستمد من التراث والوجدان الشعبي الذي يميز أهل القرى في مصر، فهل اختفاء الإنتاج النظامي لتلك الأعمال ينذر باندثارها؟

يجيب مؤلف كثير من الدراسات والمؤلفات ذات الصلة مثل "مفهوم السيرة الشعبية وفولكلور النيل"، هشام عبدالعزيز، أن التراث الشعبي الغنائي لا يمكن أن يندثر، وعلى رأسه الأغاني الريفية، مشبهاً الأمر بالأمثال الشعبية التي تستدعى وقت الحاجة إلى التدليل على موقف ما، حتى لو كان الشخص نفسه غير محب للأمثال الشعبية، لافتاً إلى أن من أبرز سمات الفلكلور أنه قد يتوارى، لكن يظل قابعاً في الوجدان والذاكرة والثقافة الشعبية العامة.

على العكس، يبدو الباحث الفني والكاتب محمد دياب أكثر تشاؤماً في هذا الجانب، مشيراً إلى أن الإبداع في مجال تلك الأغنيات توقف، لأن الاستمرارية كانت تأتي من تداول تلك الأغنيات ومشاركتها بشكل جماعي وحي في المناسبات، إذ كانت تجتمع النساء على سبيل المثال يرقصن ويصفقن ويغنين، وقد تضيف إحداهن عبارة أو تغير أخرى مقطعاً لتظل العملية الإبداعية مستمرة، ويضيف "الأمر يبدو أسوأ حالاً بعدما طغت الأغنيات المسجلة والـ(دي جي) على حفلات زفاف كل المناطق في الريف والمدن، وللأسف طغت أغنيات المهرجانات بأضعف صورها وأكثر انحداراً على هذه المناسبات".

ويدعو دياب إلى ضرورة الاهتمام بجمع وتوثيق وأرشفة وتدوين تلك الإبداعات، على غرار مشروعات سابقة قبل عقود كانت تهتم بتوثيق تلك الأعمال مسجلة صوتاً وكتابة في القرن الماضي، مذكراً بأن الملحن الراحل بليغ حمدي كان يجوب القرى والنجوع ليستمع إلى الإبداعات الغنائية الجماعية لتلك المناطق واستلهم منها أعمالاً كثيرة ناجحة لعبدالحليم حافظ ومحمد رشدي، وغيرهما.

وذكر دياب بمركز التراث الشعبي الذي أنشئ في ستينيات القرن الماضي، وأيضاً بقسم الأغنية الريفية الذي عمل به الملحن الراحل محمد الموجي في الإذاعة المصرية فور التحاقه بها، حين كان الاهتمام بهذا اللون الفني ملموساً بشدة، وعرفت به أيضاً المطربة حورية حسن.

فيما يرى العميد السابق للمعهد العالي للفنون الشعبية، مصطفى جاد، أنه من الضروري التفريق بين أغاني الوجدان الشعبي المحفوظة والمتوارثة، والأغاني التي يغنيها فنانون معروفون، إذ إن الأخيرة تصنف على أنها مستلهمة من الأغاني الشعبية المعروفة، بالاستعانة بصناع أغنية محترفين فهي تعتبر بهذه الصورة أغنية غير شعبية بالمعنى الأكاديمي، فحينما تدخل منطقة الاحتراف وتؤدى على المسارح وتطرح تجارياً بعد تسجيلها في استوديو مجهز تخرج من الإطار التقليدي للأغنية الشعبية، سواء كانت ذات طابع ريفي أو تخص أي منطقة أخرى، مشيراً إلى أن الفنان محمد منير من أكثر المستلهمين من التراث الشعبي المصري القديم، لا سيما النوبي.

ومن ضمن أبرز نجمات الأغنيات الشعبية المستلهمة من الطابع الريفي التي عرفت منذ سبعينيات القرن الماضي واشتهرت في الثمانينيات الراحلة عايدة الشاعر وكذلك ليلى نظمي، والأخيرة توقفت عن الظهور أيضاً منذ عقود، ليستبدل الغناء الشعبي الريفي ذو الطبيعة الاجتماعية بأنماط مختلفة تماماً، أصبحت هي السائدة، وهي الأكثر طلباً في المناسبات السعيدة.

يفرق الكاتب والباحث المتخصص في الدراسات الشعبية، هشام عبدالعزيز، بين ثلاثة أنماط مختلفة للفنون بشكل عام، أحدها هو الجماهيري ويشبهه بالموضة العابرة التي لا علاقة لها بذوق النخبة أو غيرها، فهو فن ليس له سمات محددة وتقييمه الفني متفاوت، يظهر في حقبة معينة من عمر الأمم، ويصبح سائداً بشدة مثل أغنيات المهرجانات، لكن عبدالعزيز يشير إلى أنه يختفي من تلقاء نفسه بعد وقت من الزمن، أما النوع الثاني فهو الغناء الرسمي الذي ترعاه المؤسسات الكبيرة والنخبة وقادة الرأي، ويعتبره أضعف الفنون الشعبية لكنه أكثرها انتظاماً وخضوعاً للقوالب الفنية النمطية، ويختتم حديثه بتأكيد أن الفن الشعبي هو أكثرها فنية وجمالاً واستمرارية، ورسوخاً.

يذكر أن فرقاً عدة باتت تعيد تقديم التراث في مصر حالياً مثل "أيامنا الحلوة وكورال فلاحي وفلكلوريتا وبهججة"، إذ تلقى الأعمال القديمة رواجاً حينما تقدم في قالب موسيقى أكثر عصرية، واللافت أنها تجد صدى عبر أكثر المنصات ابتعاداً عن هذا النمط الإبداعي مثل "تيك توك" على سبيل المثال، فعلى ما يبدو أن تلك الوسائط قد تعيد اكتشاف التراث الشعبي الغارق في القدم الذي ظن الجميع أنه فقد مستمعه وجماهيره إلى الأبد.

*المصدر: اندبندنت عربية | independentarabia.com
اخبار مصر على مدار الساعة

حقوق التأليف والنشر © 2025 موقع كل يوم

عنوان: Armenia, 8041, Yerevan
Nor Nork 3st Micro-District,

هاتف:

البريد الإلكتروني: admin@klyoum.com