اخبار مصر
موقع كل يوم -صدى البلد
نشر بتاريخ: ١٥ تشرين الثاني ٢٠٢٥
عندما نمضي في الحياة بقلوب صغيرة وتجارب محدودة، نُفسّر كل ما حولنا بنوايا بسيطة. نعتقد أن الحب وعد لا يتبدّل، وأن القرب يعني البقاء، وأن كل من يبتسم لنا يحمل نية صافية. نمنح ثقتنا سريعًا، ونغفر بسهولة، ونرى الناس كما نحب أن يكونوا، لا كما هم في حقيقتهم. ومع مرور الوقت، ومع الوعي الذي يتشكل داخلنا بفعل التجربة، نكتشف أن الحقيقة لا تظهر دفعة واحدة، بل تتكشف شيئًا فشيئًا. نفهم أن الوقت لا يغيّر الأشياء بقدر ما يرفع الغطاء عنها، فيكشف لنا ما كان خفيًا خلف الزينة والمظاهر.
فالإنسان يستطيع أن يُخفي جزءًا من ذاته لبعض الوقت، أن يتصنّع اللطف، أو يتجمّل بالاهتمام، أو يقدّم كلمات منمقة تبدو محمّلة بالدفء. لكن الأقنعة مهما كانت متقنة تتعب مع الأيام، والمشاعر المصطنعة تبهت حين يزول سببها. ومع مرور الزمن يبدأ الجوهر في الظهور، فتتضح معادن النفوس. من كان صادقًا يثبت، ومن كان عابرًا يختفي، ومن كان وجوده مرتبطًا بمصلحة أو ظرف يبهت بانتهائه. وهنا فقط ندرك أن الوقت ليس مغيرًا للطباع بقدر ما هو كاشف لها، وأن الزمن لا يبدّل الناس بل يضع كل شخص في موضعه الحقيقي.
غير أن الزمن لا يكشف الآخرين فقط، بل يكشفنا نحن أيضًا. يكشف عمق مشاعرنا، ويُظهر لنا ما إذا كانت محبة واعية أم تعلقًا عاطفيًا مؤلمًا. يكشف حدود صبرنا، ومقدار احترامنا لكرامتنا، وقدرتنا على الاحتفاظ بمن يستحق، والابتعاد عمّن يرهق أرواحنا. ومع كل تجربة، ومع كل بقاء أو خسارة أو تبدّل، تنضج الرؤية شيئًا فشيئًا. نتعلم أن العلاقات لا تُقاس بطولها، بل بثباتها، وأن العطاء الحقيقي لا يُلغِي ذواتنا، وأن الصمت في كثير من الأحيان أصدق من ألف توضيح.
وعلي المستوى النفسي، ندرك أن البصيرة لا تأتي بالعمر وحده، بل بالشعور والتجربة والانكسار والشفاء معًا. فنبدأ في استيعاب أن ليس كل حضور حبًا، ولا كل غياب جفاء، ولا كل خسارة نهاية. فهناك خسارات كانت بابًا للوعي والنضج، وهناك بقاءات كانت نعمة لم ندرك قيمتها إلا حين هدأ ضجيج العاطفة وتكلمت التجربة بصوت هادئ وواضح. وعلى المستوى الاجتماعي، نتعلم أن العلاقات التي تبقى هي تلك التي قامت على وضوح النية، واحترام متبادل، وصدق لا يتبدل مع الوقت، أما تلك التي بُنيت على فراغ أو تجمّل عاطفي أو احتياج مؤقت فهي تتلاشى عندما يحين وقت الحقيقة.
وفي النهاية، حين نكبر بحق، لا نكبر في العمر فقط، بل تكبر بصيرتنا أيضًا. نتعلم أن نختار بوعي، ونحب بهدوء، ونتخلى بسلام. نفهم أن ما كتبه الله ليبقى لن تسقطه الأيام، وأن ما لم يكن له جذور سيسقط ولو بعد حين. وهنا تتضح الحكمة العميقة إن الأشياء لا نراها كاملة حين نكون صغارًا، بل حين نكبر وننضج ونتعلم أن نرى بعين القلب والعقل معًا. فالوقت لم يغيّر شيئًا في الحقيقة، إنه فقط كشف ما كان موجودًا منذ البداية.


































