اخبار مصر
موقع كل يوم -صدى البلد
نشر بتاريخ: ٣ أب ٢٠٢٥
في منعطف جديد من المشهد النيابي المصري، تعود الانتخابات لاختيار أعضاء مجلس الشيوخ، في محطة انتخابية تعكس ليس فقط ملامح التحول السياسي في 'الجمهورية الجديدة'، بل تفتح نافذة تاريخية على مسيرة برلمانية تمتد لنحو قرنين، تعاقبت فيها تسميات وهياكل، وتداخلت السلطة التشريعية بالتنفيذية، لتشكل في مجملها رحلة فريدة من البناء المؤسسي.
فمجلس الشيوخ، الذي تبدأ انتخاباته في الداخل غدًا الإثنين ولمدة يومين، لا يمثل مجرد غرفة برلمانية، بل يُجسد تطورًا متدرجًا للمشاركة الشعبية من عصر محمد علي إلى يومنا هذا، ليُعيد للأذهان سؤالًا قديمًا متجددًا: كيف تشكلت الإرادة النيابية في مصر، وكيف تغيرت عبر العصور؟
تُعد مصر صاحبة أقدم تجربة برلمانية في العالم العربي، حيث بدأت خطوات التأسيس الأولى مع المجلس العالي عام 1824، في عهد محمد علي، وكان يتكون من 24 عضوًا، ثم ارتفع العدد إلى 48 بعد إضافة علماء وشيوخ. وفي يناير 1825، صَدرت اللائحة الأساسية التي حددت اختصاصات المجلس في مناقشة مقترحات الوالي المتعلقة بالسياسة الداخلية، مع تنظيم انعقاده.
لاحقًا، أنشأ محمد علي مجلس المشورة عام 1829، كنواة لنظام الشورى المصري، بعضويّة بلغت 156 شخصًا، يمثلون كبار الموظفين ومأموري الأقاليم والأعيان، ويجتمع المجلس سنويًا.
في عام 1866، أطلق الخديوي إسماعيل أول تجربة نيابية تمثيلية حقيقية باسم مجلس شورى النواب، بعضوية 75 عضوًا منتخبين لمدة ثلاث سنوات. مثّل هذا المجلس نقطة تحول؛ فقد بدأ محدود الاختصاصات، لكنه بمرور الوقت اكتسب صلاحيات أكبر، حتى اعتمد مبدأ مسؤولية الحكومة أمام المجلس عام 1879، في تأكيد على تطور الحياة النيابية آنذاك.
في عهد الخديوي توفيق، أُنشئ مجلس شورى القوانين عام 1883، بمزيج من التعيين والانتخاب، وبلغ عدد أعضائه 30، وكانت له صلاحية طلب مشروعات القوانين من الحكومة.
وفي عام 1913، ظهرت الجمعية التشريعية، التي تكونت من 82 عضوًا، وكانت مشاركتها شرطًا دستوريًا قبل إصدار أي قانون، وإن لم تكن ملزمة للدولة في الأخذ برأيها. ولكن الحرب العالمية الأولى أدت إلى حل الجمعية عام 1923.
شهد عام 1923 صدور أول دستور بعد إعلان الاستقلال الشكلي عن بريطانيا، وقد تبنّى نظام المجلسين: مجلس النواب ومجلس الشيوخ، حيث كان ثلثا الشيوخ منتخبين، والثلث معيّنين. ومنح الدستور صلاحيات متساوية لكلا المجلسين، باستثناء بعض الملفات الخاصة.
مع قيام ثورة 23 يوليو 1952، تم إلغاء المجلسين، وأُنشئ مجلس الأمة عام 1957، بعضوية 350 نائبًا، ليعمل في إطار نظام سياسي جديد يهيمن عليه التيار الثوري بقيادة جمال عبد الناصر.
في عهد الرئيس محمد حسني مبارك، أُجري استفتاء شعبي عام 1980 أسفر عن إنشاء مجلس الشورى، وتعديل الدستور لإضافة باب كامل خاص به. وبدأ المجلس أولى جلساته في نوفمبر من نفس العام، ليمثل الغرفة الثانية للعمل التشريعي، ويُعنى بقضايا أوسع نطاقًا من الرقابة المباشرة، مثل الحوار الوطني والتوازنات السياسية.
مع ثورة 25 يناير 2011، تم حل مجلسي الشعب والشورى، وجرى انتخاب برلمان جديد عام 2012. إلا أن المشهد لم يستقر، حيث جاءت ثورة 30 يونيو 2013 لتُنهي مرحلة جديدة، ويصدر الرئيس المؤقت عدلي منصور قرارًا بحل مجلس الشورى، وإلغاء الغرفة الثانية نهائيًا أثناء صياغة دستور 2014.
لكن في يوليو 2020، أصدر الرئيس عبد الفتاح السيسي قانون تنظيم مجلس الشيوخ، لتعود الغرفة الثانية إلى الحياة النيابية مجددًا، استنادًا إلى تعديلات دستورية أقرتها البلاد عام 2019، لتبدأ دورة جديدة من العمل البرلماني الموازي.
واتخذ مجلس الشيوخ مقره التاريخي في شارع القصر العيني بوسط القاهرة، داخل أحد القصور التي شُيّدت عام 1866 في عهد الخديوي إسماعيل، والذي كان في السابق مقرًا لمجلس الشيوخ بموجب دستور 1923.
من مجلس المشورة إلى مجلس الشيوخ الحالي، تمتدّ المسيرة النيابية في مصر على مدى قرنين من الزمن، حملت خلالها السلطة التشريعية وجوهًا متعددة، من المجالس الاستشارية إلى البرلمانات التمثيلية، ومن نظام الغرفة الواحدة إلى النظام الثنائي.
واليوم، يعود مجلس الشيوخ ليسد فجوة في بنية الدولة المؤسسية، ويُعزز آليات الديمقراطية التشاركية، في مرحلة دقيقة من تاريخ مصر الحديث، حيث تتقاطع الرغبة في الاستقرار مع الطموح في التحديث.