اخبار البحرين
موقع كل يوم -جريدة البلاد
نشر بتاريخ: ٢٨ تشرين الثاني ٢٠٢١
ببشرة بيضاء شاحبة، وجسد نحيل جداً وعزيمة بحجم الجبال، وجدته متربعا على مقعد رئيس جمعية البحرين لرعاية مرضى السكلر، المقعد الذي لم يفارقه منذ تأسيس الجمعية قبل 15 عاما، متصدرا مشهد الدفاع والدعم لجميع محاربي مرض الخلية المنجلية “السكلر” في البحرين والعالم. يصعب على 9000 محارب “سكلر” في البحرين استيعاب خطورة مرض أباهم الروحي زكريا الكاظم. كيف يمرض؟ وكيف يميل جذع الشجرة التي ظللتهم بالأمل على مدار السنين مهددة بالسقوط؟
قال لي زكريا في حوار خاص لـ “لبلاد”: “أعاني من أورام خطرة وإزالتها يؤرجحني بين الموت والحياة، كما هو خطر بقاؤها في جسدي”.
التقيته بعد منشور مقتضب بثه عبر صفحته في “الانستغرام” لأسأله:” قلت إنك مريض، فما مرضك؟ وهل يبكيك”؟
فأجاب: “لن أبكي لمرضٍ يوماً، ولن أخاف منه ومن المستحيل أن أُكسر! فكيف بصانع الأمل للآخرين أن يمارس اليأس؟”. إن 9 آلاف محارب يمنحونني قوة متجددة، أطمئن عيالي جميعا وأقول: “لا أود الرحيل قريبا، وسأحارب لأكون بجانبهم دائما”.
3 غدد لمفاوية
واجهت مضاعفات السكلر والموت مرارا، لكنك تعاني من مرض جديد الآن، فما هو؟
- مرضي عبارة عن ثلاث غدد لمفاوية اكتشفتها في نوفمبر 2020، وأعاد الأطباء إجراء الأشعة بعد 6 أشهر آملين مغادرتها جسدي، لكننا وجدناها لا تغادر، بل تكبر حيث تضاعف حجمها بسرعة، ما يدفعنا لضرورة إزالتها.
لكن موقعها حرج في منطقة شريان الأبهر وهو الشريان الرئيس والأكبر في الجسم، والمخاطرة كبيرة في نزع الأورام.
بعد الإزالة يتم فحص الأورام؛ لتبيان ما إذا كانت حميدة أو سرطانية وتحتاج علاجًا إشعاعيًا.
ألم شديد
متى اكتشفت ظهور هذه الغدد؟
- في نوفمبر 2020 كنت أمارس رياضة المشي بعد صلاة الفجر، وشعرت بألم شديد في القلب، وبعد يوم مرهق طلبت من ابن اختي أن يوصلني للمستشفى، وحين صعدت سيارته قال لي: “عظم الله أجرك” فسألته: فيمن تعظم لي الأجر؟ فقال: توفى صاحب السمو الملكي الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة طيب الله ثراه.
أدركت حينها أن الضربة التي شعرت بها في قلبي كانت استباقية، وأن جسدي كان يشعر بوجعه.
خطر الموت
ما العلاج اللازم لحالتك الصحية؟
- أخبرني الأطباء أن إجراء عملية إزالة الغدد في البحرين لا تخلو من خطر الموت؛ لذا أوصوا بالبحث عن علاج خارج البحرين، ربما تركيا أو بريطانيا.
لن أذكر الأسماء
من الطبيب الذي أوصى بذلك؟
- لن أذكر الأسماء؛ لأنني إذا ذكرت اسما ربما يفهم أن الطبيب غير واثق من كفاءته، لكن الأمر في الواقع تحدٍ كبير، أولاً المريض “سكلر”، ثانيًا: موقع العملية صعب جدًا، فإذا أخطأ المشرط طريقه إلى شريان القلب أو شريان الكلى أو الحبل الشوكي يؤدي ذلك لشلل أو موت أو فقد للكلى، ثالثًا: المريض هو زكريا الكاظم وإن توفيت أثناء إجراء العملية ربما يخسر الطبيب سمعته الطيبة.
بيد الله
أنت سفينة نجاة تعلق بها الكثير من محاربي الخلية المنجلية، كيف تعجز السفينة الأقوى عن إنقاذ نفسها والوصول لبر الأمان الآن؟
- أما الآن، وقد عصفت البحار فهي بيد الله، وماذا أخشى؟ لست عاجزًا، وقد وجدت الحل في العزيمة وعدم التردد في الخضوع للعلاج المناسب.
وأضاف: “أمي تقول دائمًا: إذا وجدت نفسك وسط عاصفة نم يا بني، ستستيقظ والحل أمامك”. أصدقها، والنوم هنا بمعنى السكينة.
منحة للعلاج
متى ستبدأ رحلة العلاج؟
- بدأتُ في تقديم طلب للحصول على منحة للعلاج في الخارج من وزارة الصحة، وطلبي الآن في طور الإجراءات الرسمية.
أعتقد أنني مستوفٍ لشروط الاستحقاق وآمل الحصول عليها، وإذا لم أحصل عليها سأنتظر خيارات البحرين.
نعم أخافه
كيف استقبلت خبر مرضك؟ وهل تخاف الموت؟
- واجهت الموت 11 مرة ولو واجهته للمرة الثانية عشرة ما الفارق؟ نعم أخافه، ولكن الاطمئنان والسكينة أكثر حضورا في المشهد.
يجب ألا أرقق الخوف من الموت؛ لأني إذا فعلت، فأنا خائن جبان هربت من مسؤولياتي ومن أهلي وجعلتهم عرضة للأحزان والأوجاع وأدعو الناس للانتحار، فما أسهل أن يقتل الإنسان نفسه لمختلف الأوجاع والمآسي التي يمر بها.
الشجاعة بالنسبة لي أن أخافه وأواجه الحياة بكل تحدياتها وآلامها.
غرفة خاصة
هل تبكي في المستشفى بسبب المرض؟
لهذا السبب أدفع للحصول على غرفة خاصة بغض النظر عن قدرتي المادية على دفع أجرتها؛ لأتمكن من البكاء.
بالإضافة لما سبق أستأجر الغرفة الخاصة لأن الستارة في الغرف العامة لا تحمي ماء وجه من يزورني ليشكو حاله، فأنا من التاسعة صباحا حتى التاسعة مساءً مريض، لكنني لست مريضًا كما يراني الآخرون، في الحقيقة أنا ممثل يدعي القوة، مستأجر لعواطف الآخرين وآلامهم، وبعد أن تنقضي الساعة التاسعة كل ما يبقى لي هو عصارة أحزان اليوم.
أمي الثانية
من يراك بلا قناع “السوبرمان”؟ الكاظم بكل أحزانه وتعبه؟
- زوجتي هي أمي الثانية، أرمي أثقال قلبي لديها؛ لأني لا أخشى أن تعايرني بضعفي، ولا تستغله ضدي أبدا.
أرض صلبة
ما الذي مكنك من تحقيق كل الإنجازات والتقدم في ملف “السكلر”؟
16 عاما من النجاح في قيادة الملف كانت بسبب فريقي القوي جدًا، محظوظ لأني أقف على أرض صلبة، فريق يعمل بصمت وهو يدرك أن كل الشكر والجائزة لزكريا ولن يناله منها شيء، ومع ذلك يؤمن بخدمة ملف السكلر.
أنا المايسترو
هل تجامل الأصدقاء بهذا الكلام أم إنك تعنيه؟ لأن الجميع في البحرين يدرك تماما أن جمعية “السكلر” بشكل أو بآخر هي زكريا.
أنا المايسترو وهذه حقيقة، لدي عصا ولكن من يعزف الجمال بالآلات هم فريقي، لطالما كنت المايسترو الذي يقف لتحيته الجمهور وليس العازف.
يقول سبحانه وتعالى: “لئن شكرتم لأزيدنكم”، وهذا الشكر ليس أن أقول شكرا فقط، بل أن أعي أن هذا الفضل الذي أعيشه من الله وليس مني.
إنني محظوظ كوني بحرينيا، بقيادة تسمعني وتساعدني على النجاح، بدولة ترعى الدواء، مجتمع بحريني ناضج يحتضن “السكلر” ولا يقبل بخسارته، مجتمع واع تمارس الأسرة البحرينية فيه قمة المسؤولية حين نقول إن الارتباط بين الأهل يسبب تزايد الحالات. أنا محظوظ بهذه النعم.
خيارات جمعية
كيف أثرت قيادتك لملف “السكلر” على حياتك؟
فن التغيير الجمعي وخلق الشخصية المناسبة لمحارب “السكلر” هو عملي؛ لذا جعلني عيالي محاربي السكلر أحيد من أن تكون لي خيارات شخصية إلى خيارات جمعية.
كل ما أمثله من مظهر ونطق وتصرف لا يجب أن يكون تصرفا خاصا بزكريا وحده، بل خاضع لمعاييرهم جميعا، هل يناسبهم فعلي وقولي؟ هل يضعفهم أم يقويهم؟ حتى في مظهري الخارجي أتفاعل بما يتناسب معهم.
أحيانا أشعر بأنه قد وضعت لي قوالب مثالية يجب أن أتصرف وفقها.
ينتظر تدويناتي
ألم تخسر حياتك ونفسك في سبيل إرضاء “أبنائك” كما تسميهم؟ بالرغم من أنك تواجه نقدا مستمرا من بعضهم.
- ربما اكتشفت أجمل ما فيها؛ لأنهم جعلوا المثالية نموذج أحاول أن أصل إليه وأتمسك به.
حتى منتقد زكريا والذي يختلف معي، يستيقظ كل نهار، وينتظر أن أنشر منشورا عبر وسائل التواصل، أو يرسل لي أي رسالة بمعنى ودون معنى على هاتفي؛ لأنه يريد الاطمئنان بأن زكريا حي، وجودي بالنسبة إليه مصدر أمل وثقة.
أشعر بحب عيالي جميعا، حتى المختلف معي.
متعبة ومرهقة
هل تشعر بالمتعة في المثالية؟
المثالية متعبة ومرهقة. الإنسان ضعيف بطبعه. لكن بالنسبة لي، أنا أب لكل هؤلاء، لا يحق لي أن أبكي، قد أخاف، لكن لا يحق لي أن أقول أنا خائف، وربما حزين، لكن الحزن أيضا لا يليق بي، ولا يحق لي الكسر؛ لأني حين أكسر يكسر 9 آلاف محارب. ويجب أن يحمي الأب أبناءه من الحزن.
كل متابعيني هم أناس آملون بأن لا أموت ولا أنكسر؛ ليشعروا أنهم بخير.
لابد أن أتفهم مسؤوليتي وأتصرف بما يناسبها.
ليس الوحيد
أين ترى مستقبل الجمعية؟ وهل يؤثر مرضك على رعاية محاربي السكلر في البحرين؟
صديقي العزيز فريد رمضان الذي رحل عنا بعد حرب شرسة مع “السكلر” كان يقول دائما: “زكريا ما عندنا وقت”. وأنا أقول اليوم: لا نملك وقتا لتضييعه، يجب أن نعمل.
زكريا ليس الوحيد في الجمعية، يوجد أكثر من زكريا، لكن عيالي متواضعون، ولو ابتعدت عن المشهد ستجدونهم أفضل مني، لكنهم خجلا وتأدبا يبتعدون.
في البحرين استطعنا أن نؤسس لمن يأتي من بعدي.
أحلم برؤية محارب للسكلر قائدا للملف الصحي في البحرين، يثق به المجتمع والدولة.
والحلم عادة يتحول لعزيمة، ثم إرادة، فهدف. وأعتقد أني وصلت للهدف.
يبتسم كثيرا
ودعني الكاظم مبتسمًا كعادته بشفة جافة إثر تناول مسكنات الألم، فغادرته وهو يحمل في يد أجهزته اللوحية التي تكشف نهمه بالتواصل مع العالم، وفي يدٍ أخرى يقبض على بضاعته الغالية: “الأمل” فلا يفلت منه بل يثقله ويرهق خطاه.
يبتسم كثيرا ليطمر آلامه، ويخبر العالم كم هو سعيد، لكنني رأيت الحزن كله نائما على كتفيه، هو أب مشحون بأوجاع عياله وحكاياتهم، وكلما رفع رأسه شامخا ببياض بشرة وسريرة، كان ألمه يتعاظم ويسبق لعيني كل ما يدعيه.
