هل ستصبح الجزائر "محجاً" للمسيحيين الكاثوليك في العالم؟
klyoum.com
أخر اخبار الجزائر:
موعد القرعة والملاعب والجوائز.. تفاصيل بطولة كأس العرب 2025 (فيديو)وجه البابا لاون الرابع عشر رسالة "خاصة" إلى الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، عبر له فيها عن "رغبته الصادقة" في زيارة الجزائر، وذلك بعد توليه منصب الحبر الأعظم في الفاتيكان مباشرة.
ووفق بيان لوزارة الخارجية الجزائرية، فقد نقل الرسالة سفير الجزائر لدى الكرسي الرسولي، رشيد بلادهان، الذي حضر القداس لتهنئة البابا الجديد، بمناسبة انتخابه لمنصب "بابا الكنيسة الكاثوليكية، ورئيس دولة الفاتيكان".
فما السر وراء هذه الرغبة البابوية، وما العلاقة "الخاصة" بين رأس الكنيسة الكاثوليكية والجزائر؟
في الواقع، أشارت رسالة البابا بوضوح إلى دوافع رغبته في زيارة الجزائر، وإلى علاقته الشخصية بها؛ حيث ذكر في حديثه مع السفير الجزائري أنه يرغب في رؤية مسقط رأس القديس أوغسطين، أبرز أعلام الفكر المسيحي، وأعظم الآباء اللاتين في الكنيسة الكاثوليكية، بعد بولس الرسول.
وعرّف الحبر الأعظم نفسه، في خطاب تنصيبه، بأنه "ابن القديس أوغسطين"، قائلاً إنه يفتخر باتباع فكره ومنهجه في الدين والحياة. ولا شك في أن هذه الرابطة الروحية، دفعته إلى التعبير عن رغبته في زيارة الأرض التي أنجبت معلمه في الفكر وقدوته في العقيدة.
الأكثر قراءة نهاية
وبعد انتخابه، أجرى البابا لاون الرابع عشر زيارة مفاجئة لرهبنة القديس أوغسطينوس في روما، وهي جماعة في الكنيسة الكاثوليكة لها فروع عبر العالم، كان رئيساً لها في الفترة من 2001 إلى 2013 حين كان يُعرف بالكاردينال روبرت فرنسيس بريفوست.
يمكنك مطالعة مجموعة متنوعة من المقالات الشيقة والملهمة والتقارير المفيدة.
اضغط هنا
يستحق الانتباه نهاية
ودخل الكاردينال بريفوست دير الرهبنة الأوغسطينية في عام 1977، والتزم طريقتها في التعبد وأسلوبها في العمل طوال حياته. ونال شهادة الدكتوراه في القانون الكنسي في روما عام 1987 بأطروحة عنوانها: "دور الرئيس المحلي لرهبانية القديس أوغسطينوس".
لقد أصبح لاون الرابع عشر أول بابا ينتمي إلى الرهبنة الأوغسطينية، ويظهر تأثره بالقديس أوغسطين في شعار الدرع الذي اختاره لنفسه وهو على رأس الكنيسة الكاثوليكية. ففي نصف الدرع السفلي نرى كتاباً مُغلقاً فوقه قلب يخترقه سهم، وهذا شعار مستوحى من مقولات القديس أوغسطين.
ويرمز الشعار إلى أعتناق القديس أوغسطينوس للمسيحية بعد رحلة طويلة وبحث عميق. ووصف حينها لقاءه "بكلمة الله" في هذه الصورة، بقوله "لقد جرحت قلبي بكلمتك". ويحمل درع البابوية أيضاً عبارة أوغسطينية باللاتينية، تقول: "في الواحد نصير واحداً".
ويشرح البابا معناها، في مقابلة مع "أخبار الفاتيكان"، بقوله: "إن الوحدة والتشارك من صميم الهبة الخاصة التي تميز رهبنة القديس أوغسطينوس، وهما أيضاً محور تفكيري وأسلوب عملي. ثم إنني كأوغسطيني، أعتبر تعزيز الوحدة والتشارك أمراً جوهرياً".
ومن الواضح أن فلسفة القديس أوغسطينوس وأفكاره في الدين والحياة، سيكون لها تأثير وبصمة في منهج الكنيسة الكاثوليكية وتوجهها، بقيادة البابا لاون الرابع عشر. ولا شك في أن زيارة مسقط رأس أحد أعظم مفكري المسيحية في العالم ستكون مصدر إلهام لتوجه الفاتيكان الجديد.
من هو القديس أوغسطين (354 م -430 م)؟
يوصف القديس أوغسطينوس بأنه أعظم المفكرين والفلاسفة في التراث المسيحي كله، وواحد من أعمدة الثقافة والأدب في القرون الوسطى الغربية، وهو دون شك أغزر معاصريه تأليفاً، وأعمقهم تفكيراً، وأوسعهم علماً، وأقواهم تأثيراً.
وحتى اليوم، يحتار مؤلفو سير الأعلام والدارسون للتراث المسيحي الغربي في الكم الهائل من الكتب والرسائل التي كتبها القديس أوغسطينوس؛ فقد تجاوز المعروف منها 230 كتاباً. والكثير من كتبه ورسائله تُرجِم إلى مختلف اللغات العصرية، لكن بعضها لا يزال حبيس المكتبات في النسخة اللاتينية الأصلية.
كان القديس أوغسطين عالماً متمكناً في مختلف العلوم والفنون، ومجادلاً قوياً حاداً في رأيه. وقد خصص عدداً كبيراً من كتاباته للمناظرة والرد على الأفكار والعقائد التي يختلف معها. وألف أيضاً في البلاغة والأدب والموسيقى والأخلاق والفلسفة والقانون والحقوق.
ومن أشهر أعماله وأوسعها انتشاراً كتاب "اعترافات"، الذي يقع في 13 جزءاً، يروي فيه تجاربه في الحياة ورحلته الطويلة بحثاً عن الحقيقة والإيمان الصحيح، انتهاء باعتناقه المسيحية، ويعد عمله هذا أول سيرة ذاتية كتبت في تاريخ الثقافة الغربية كلها.
ويصفه هنري تشادويك، أستاذ علم اللاهوت بجامعة كامبريدج، في كتابه أوغسطينوس، بأنه "أول رجل حديث" في التاريخ. وتتميز كتاباته وأفكاره "بعمق غير مسبوق"، وكان له تأثير كبير في الطريقة التي ينظر بها الغرب إلى "طبيعة الإنسان" وإلى معنى كلمة "الرب".
وفي كتابه "مدينة الله"، ينافح القديس أوغسطين عن عقديته بإيمان راسخ، ويتألف الكتاب من 22 جزءاً ينفي فيها مزاعم الوثنيين بأن المسيحية كانت سبباً في خراب روما. ويتحدث بتحليل عميق عن ثنائيات "الخير والشر"، و"حرية الاختيار والقدر الرباني"، و"الحياة الدنيا والآخرة".
ولد القديس أوغسطين في يوم 13 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 354 م في تاغاست (سوق أهراس)، الواقعة في بلاد الجزائر اليوم. وكان والده باتريكوس وثنيا، ويُروى أنه اعتنق المسيحية قبل وفاته بفترة قصيرة. أما والدته مونيكا فكانت مسيحية ورعة، ويُطلق عليها لقب القديسة أيضاً.
حرصت والدته على تلقينه تعاليم المسيحية ومبادئها منذ صغره، لكنه نفر من الأساطير "الساذجة" التي كانت تُروى على لسان المبشرين والبطاركة، عن الدين وتعاليمه. وانجذب إلى علم الفلك والأدب و المسرح، ثم مال إلى المانوية واتبعها، قبل أن يهاجمها ويعود إلى المسيحية.
ويُروى عن مونيكا أنها حزنت حزناً شديداً لما رأت من ابنها في شبابه من "انحراف" عن تعاليم الدين وانغماس في حياة "اللهو والمجون"؛ فكانت تبكي باستمرار لمدة عشرين سنة، إلى أن عاد ابنها إلى المسيحية. ومن أجل هذا، أطلِق على القديس أوغسطين لقب "ابن الدموع".
تلقى القديس أوغسطين تعليمه الأول في مسقط رأسه تاغاست (سوق أهراس) شرقي الجزائر، التي كانت عبر التاريخ ملتقى للحضارات الرومانية والنوميدية والبيزنطية والإسلامية. ثم التحق بأكاديمية ماداوروس (مداوروش) على بعد 50 كيلومتر، من بلدته.
ومدينة مداوروش اليوم دائرة إدارية، تابعة لولاية سوق أهرس، التي تبعد عن الجزائر العاصمة بنحو 590 كيلومتر، شرقاً.
وتعد أكاديمية مداوروش أول جامعة في تاريخ أفريقيا، فيها تعلم القديس أوغسطين على يد أستاذه ماكسيميليان المداوروشي، وهو عالم لغوي من مؤسسي قواعد اللغة اللاتينية، أخذ عنه فن البلاغة والخطابة، وأصبح فيما بعد صديقاً له، على الرغم من اختلافهما في العقيدة.
ويذكر القديس أوغسطين في كتاباته أعلام بلاده ونوابغها، من بينهم الفيلسوف والعالم اللغوي أبوليوس المداوروشي (124 م-170 م)، الذي كان أستاذاً للبلاغة اللاتينية واليونانية في روما؛ لكنه يُعرف خاصة بروايته ذائعة الصيت "التحولات" أو "الحمار الذهبي".
وتعد رواية أبوليوس "الحمار الذهبي" أول رواية معروفة في التاريخ، تحدث فيها عن مغامرات شاب تحول، بمفعول السحر، إلى حمار. ويرى فيها الدارسون للآداب القديمة بعض الجوانب من حياة الكاتب الشخصية؛ لأن الاهتمام بالسحر والاشتغال به كان رائجا في عصره.
زيتونة القديس أوغسطين
في مدينة سوق أهراس اليوم، تقف زيتونة شهيرة على إحدى تلال البلدة القديمة، شاهدة على عراقة المنطقة الضاربة في أعماق التاريخ، وعلى حياة أحد نوابغها الذين أضاءوا بفكرهم طريق الحضارة الإنسانية، فسارت على أنوارهم أجيال وأمم قروناً وقروناً من بعدهم.
وغير بعيد عن الزيتونة، يقع ضريح سيدي مسعود، الولي الصالح المتوفى في عام 1770م.
وقد أنشأت السلطات الفرنسية، بعد احتلالها للجزائر في عام 1830، خلفهما بيتاً كانت تستخدمه جيوشها الغازية لتخزين البارود، قبل أن يتحول البناء اليوم إلى متحف للقديس أوغسطين.
ولقد ساد الاعتقاد طويلاً بأن هذه الزيتونة غرسها القديس أوغسطين بنفسه؛ فقد ذكرها في العديد من كتاباته، وربما كان بيته قريبا منها، فكان يجلس تحت ظلها ليستريح أو يتأمل، أو يكتب رسائله؛ لكنّ الدراسات والاختبارات العلمية الحديثة أثبتت أنها أقدم من ذلك بقرون.
فوفق ما جاء في دراسة أمريكية نشرت عام 1953، قد يصل عمر تلك الشجرة إلى 3 آلاف سنة، بعد أن أثبت مختبر علم تسنين الشجر للبروفيسور دوغلاس، في توسكان بولاية أريزونا، أن زيتونة القديس أوغسطين، عمرها في الواقع 2900 سنة على الأقل.
وتذهب الأساطير الشعبية أبعد من ذلك في التاريخ، إذ يعتقد رواتها أن من هذه الزيتونة، الورقة التي حملتها الحمامة إلى النبي نوح، لتخبره بانحسار المياه عن الأرض في حادثة الطوفان، كما يقصها الإنجيل.
وجاء في سفر التكوين: "فأرسل الحمامة من الفلك، فأتت إليه الحمامة عند المساء. وإذا ورقة زيتون خضراء في فمها. فعلم نوح أن المياه قد قلّت عن الأرض"، الأمر الذي جعل الحمامة وغصن الزيتون رمزاً للسلام والمحبة في كل العالم.
ولا يذكر القرآن هذه القصة كما جاءت في الإنجيل، لكنه جعل "البركة" في الشجرة وزيتونها وزيتها في العديد من الآيات.
وجاء في سورة النور" يُوقَد من شجرةٍ مباركةٍ زيتونةٍ لا شرقيةٍ ولا غربية، يكادُ زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، نورٌ على نور، يهدي الله لنوره من يشاء".
أسقف هيبون (عنابة)
سافر أوغسطين إلى روما مدرساً للبيان، ثم انتقل إلى ميلان، والتحقت به والدته. وهناك تغيرت أراؤه من المانوية، فعارضها واعتنق المسيحية. وبعد وفاة والدته ثم ابنه، عاد إلى بلاده. وفي تاغاست (سوق أهراس) اختار الاعتكاف والخلوة، من أجل التفكير والتأمل.
كان عمر أوغسطين 36 عاما عندما عُين كاهناً على غير رغبته، ثم أسقفاً لمدينة هيبون (عنابة) الساحلية شرقي الجزائر، في عام 395 م. وقد بقي في منصبه حتى وفاته في عام 430 م أثناء حصار الوندال للمدينة. ولا تزال آثار كنيسة السلام، التي كان يرأسها، ماثلة للعيان.
وفي عام 2013، أعادت السلطات الجزائرية ترميم كنيسة القديس أوغسطين التي بنيت في عام 1900، قريباً من آثار كنيسته الأصلية تكريماً له، وإحياءً لذكراه ومآثره، وفيها تمثاله الممدد في خزانة زجاجية، تحتوي أيضاً على عظام من أطرفه.
وقد دافع أسقف هيبون (عنابة) عن المسيحية والكنيسة الرسمية التي تتبناها الدولة. ولذلك اصطدم مع الطوائف المنشقة عنها مثل الدوناتية، التي انتشرت وقتها في شمال أفريقيا. ودخل مع دعاتها ومع الوثيين والمانويين وغيرهم، في سجالات لا تنتهي ومناظرات حادة في هيبون (عنابة) وقرطاج (في تونس اليوم).
وكان القديس أوغسطين يتميز عن خصومه ويتفوق عليهم بثقافته الواسعة، وأدلته القوية، وقدراته البلاغية الاستثنائية. واستطاع بفكره المستنير، وكتاباته الغزيرة أن يتبوأ مكانة القديسين في الكنيسة الكاثوليكية، ومرتبة العباقرة في الحضارة الغربية.
الجسر الحضاري
عاش القديس أوغسطين، من حيث الزمان، في نهاية القرن الرابع وبداية القرن الخامس الميلاديين. فمكنته تجربته من استيعاب خلاصة ما أنتجه العلماء والمفكرون في القرن المنتهي، وساهم بدوره في صناعة وتطوير المفاهيم والفكر في القرن الجديد.
وكان يمثل أيضاً رابطة مكانية بين الشمال والجنوب. فهو أفريقي في الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، وينتمي في الوقت نفسه إلى الحضارة الرومانية في الشمال من البحر. لكن عبقريته الأصيلة جعلت هذه الرابطة مبنية على المساواة والتكافؤ.
موسم الحج إلى القديس أوغسطين
إن رغبة البابا لاون الرابع عشر في زيارة الجزائر، تحمل كل المعاني التي عاش من أجلها في حياته الخاصة أو في رهبانية الأوغسطينيين التي كان يرأسها. وقد عبّر عن ذلك صراحة عندما أعلن اتباعه منهج القديس أوغسطين في الفكر والعقيدة.
وسيجد البابا في سوق أهراس (تاغاست) شجرة زيتونة عمرها أكثر من 3 آلاف سنة، كان يستظل تحتها القديس أوغسطين وأمه القديسة مونيكا. وهي الزيتونة التي رافقته في تأملاته وصلواته، فذكرها في كتبه ورسائله.
إنه الحج إلى منابع المسيحية الأولى بالنسبة لكل المؤمنين.
وفي عنابة (هيبون) آثار كنيسة السلام، التي قادها الأسقف أوغسطين، ومنها خاض سجالاته الفكرية ومعاركه الفقهية، وبين أسوارها ألقى مواعظه على المؤمنين والأتباع، وفي جوفها اختلى بنفسه للتأمل والمناجاة، أو للكتابة والتأليف.
إنها رحلة الفكر أيضاً إلى ملتقى الحضارات الرومانية والنوميدية والبيزنطية والإسلامية على أرض أفريقيا، في الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط. وفيها يقتفي الباحث آثار العبقري الذين أرسى قواعد الفكر المسيحي الحديث، فهو شمس الجنوب التي أشرقت على الشمال.
ويقول الأستاذ تشادويك في كتابه "فجر الكنيسة" إن "القديس أوغسطين تفوّق على معاصريه بعمق فكره وسعة عقله، لكنه كان أيضاً متقدماً في الفكر على من جاءوا بعده بقرون عديدة. وكان تأثيره واضحاً في الكاثوليكية والأرثوذوكسية على حد سواء".
وعلى الرغم من أنه لا يمكن الحديث عن أي حقوق أو مكانة للمرأة في القرنين الرابع والخامس الميلاديين، إلا أن القديس أوغسطين يقول في شرحه لسفر التكوين، إن "خلق الإنسان ذكراً وأنثى كان على أساس اختلاف الجسد فقط. فالتمايز بين الذكر والأنثى ليس تمايزاً في الطبيعة أو الروح أو العقل أو القيمة". وإنما هو اختلاف في النوع لا غير.
وهذا مفهوم سبق إليه القديس أوغسطين قروناً من المفكرين والفلاسفة، وصاغه في عصر اتفقت فيه العقول البشرية على أن المرأة مجرد تابع للرجل ومتاع له. ولا تزال الكثير من العقول والمجتمعات إلى اليوم عاجزة عن استيعاب هذا المفهوم الأوغسطيني والإقرار به في حياتها.